لا یخفى أنّ المسائل الأخلاقیّة، تخطى بأهمیّة کبیرة فی کلّ زمان، ولکنّ فی عصرنا الحاضر، إکتسبت أهمیة خاصة، وذلک:
1 ـ إنّ قوى الإنحراف و عناصر الشرّ و الفساد، قد إزدادت فی هذا العصر، أکثر من جمیع العصور السّالفة، فإذا کان التّحرک فی الماضی فی خطّ الباطل و الإنحراف، یکلّف الإنسان مبلغاً من المال، أو شیئاً من الجهد، ففی هذا الزّمان و بسبب التّقدم العلمی والتّطور الحضاری، أصبحت أدوات الفساد فی متناول الجمیع، هذا من جهة:
2 ـ ومن جهة اُخرى، إنّنا نعیش فی هذا العصر ضخامة المقاییس، فبینما کانت المقاییس والموازین محدودةً فی الماضی، و بتبع ذلک نرى محدودیّة المفاسد الإجتماعیة والأخلاقیّة، فإنّ القتل فی هذا الزّمان بسبب أسلحة الدّمار الشّامل، والفساد الأخلاقی بسبب انتشار أشرطة الفیدیو والسّینما الخلیعة، وکذلک ما یفرزه «الأنترنیت» من معلومات فاسدة، و یضعها فی متناول الجمیع، کلّ ذلک یحکی عن إنفجار فی دائرة الفساد و الإنحراف، و کسر القوالب الضّیقة الّتی کانت تحدد قوى الباطل فی الماضی، لیسری إلى خارج الحدود، و یصل إلى أقصى بقعة فی العالم.
وإذا کان إنتاج المواد المخدّرة فی السّابق، ینحصر بقریة أو منطقة محدودة، و لا یتجاوز ضرره سوى المناطق المجاورة، فالیوم نرى أنّ الابتلاء بمرض الإدمان، و من خلال عملیّة التّهریب الواسعة لعصابات الموت، قد غطى أجواء العالم أجمع.
3 ـ ومن جهة ثالثة، أنّنا نشاهد توسّعاً هائلاً فی العلوم النّافعة لِلبشر، فی مختلف جوانب الحیاة فی علوم الطّب و الفضاء، و الإتصالات والمواصلات وأمثال ذلک، و کذلک الحال فی العلوم الشّیطانیة ووسائل الفساد و الإنحراف، حیث تطورت بشکل مذهل، الى حد إنّ القوى الشیطانیّة التی تقف وراء إنتاج أدوات الإفساد الإجتماعی، یتوصلون إلى تحقیق أهدافهم بطرق ملتویة کثیرة و یسیرة، و مثل هذه الظّروف و الأجواء تحتم علینا الإهتمام بالمسائل الأخلاقیة أکثر من أیّ وقت مضى، وإلاّ فعلینا أن نتوقّع الکارثة، أو الکوارث التی تشلّ فی الناس إرادة المواجهة، و تحولهم إلى کیانات مهزوزة أمام حالات الخطر.
و یجب على العلماء الواعین و المفکّرین المخلصین، أن یتحرکوا من موقع التّکاتف فیما بینهم، لتعمیق الأخلاق فی قلوب الناس، و تفعیل عناصر الخیر فی وجدانهم، والإنتباه إلى الخطر المحیط بالأخلاق، بحیث إنّ البعض أنکر فائدتها من الأساس، أو ذهب إلى أنّها غیر ضروریّة، والبعض الآخر تعامل معها من موقع المصلحة و البرُ اجماتیة، للوصول إلى مطامعه السّیاسیة.
—–
ولحسن الحظ فإنّنا کمسلمین، نمتلک مصدراً عظیماً للمعارف الأخلاقیّة، و هو القرآن الکریم، الذی لا یُدانیه أیّ مصدر دینی آخر فی العالم.
ورغم أنّ العلماء والمفسّرین، قد تناولوا البحوث القرآنیة فی دائرة الأخلاق، بالبحث والدّراسة، إلاّ أنّ هذه الأبحاث و الدراسات جاءت متفرقة و لا تفی بالغرض، ولهذا إفتقرت السّاحة الثقافیة و التّفسیریة، إلى کتاب أو کُتب لدراسة هذا الموضوع، بالإستیحاء من الآیات القرآنیة، فکان هذا الکتاب الذی بین أیدیکم و بإسم: (الأخلاق فی القرآن)، إستجابة عملیّةً لِهذه الحاجة الماسّة فی حرکة الواقع الثّقافی و الدّینی، لسدّ هذه الثّغرة فی صرح البناء الثقافی والحضاری للإسلام.
وجاء هذا الکتاب، بعد بحوث و دراسات فی التّفسیر الموضوعی للقرآن الکریم شملت المعارف والعقائد الإسلامیّة فی دورته الاُولى، و لتکون الدّورة الثّانیة، مختصّةً ببحوث الأخلاق الإسلامیّة فی القرآن الکریم.
وبحمد الله فقد إنتهینا من هذه الأبحاث الأخلاقیة فی ثلاث أجزاء، تناول الجزء الأوّل منها، دراسة المسائل الأخلاقیّة الکلیّة فی دائرة الأخلاق، و هذا هو الکتاب الذی بین أیدیکم، حیث یمکن الإستفادة منه بعنوان کتاب درسی للرّاغبین، ویتکفل الجزء الثانی و الثالث، ببیان تفاصیل هذه المسائل الکلیّةً و جزئیّاتها ومصادیقها.
نأمل أن تکون هذه الأبحاث الأخلاقیة، المستوحاة من أجواء القرآن الکریم، خطوة اُخرى على طریق حلّ المشاکل الأخلاقیّة و الثقافیّة للإنسان، فی حرکة الحیاة والواقع الإجتماعی، ونسأل الله تعالى أن ینظر إلیها بنظرة القبول، و یجعلها ذخیرةً لنا یوم لا ینفع مالٌ و لا بنون، ونرجو من الاُخوة أن یتفضلوا علینا بإرشادنا إلى موضع النّقص إن وجد.
والحمد لله ربّ العالمین
ربیع الأول 1419 هـ . ق
الأخلاق فی القرآن / الجزء الاوّل
1/ أهمیّة الأبحاث الأخلاقیة