والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرین.
ثبوت محرمات المصاهرة بالزنا وعدمه
الوجه الرابع ومؤیّداته
بعد أن بیّنا الوجوه الأربعة المذکورة للجمع بین الروایات المتعارضة فی المقام شرعنا فی مناقشة کلّ منها، وانتهینا إلى الوجه الرابع، والذی هو حمل الروایات الناهیة على الکراهة والروایات المجوّزة على الحلیة. ونتیجته القول بعدم ثبوت التحریم بالزنا.
وهذا الجمع وإن کان معروفاً فی کلّ أبواب الفقه إلاّ أنّه لم یقع فی مقامنا مورد عنایة عند کثیر من الأعلام، والحال أنّه یمکن أن تذکر له خمس مؤیّدات:
المؤید الأوّل: أنّ التعلیل الوارد فی الروایات القائل: ((لا یحرم الحرام الحلال)) هل هو تعلیل تعبّدی أو تعلیل بأمر عقلی؟
التعلیل عادة یکون بأمر عقلی، وإذا کان هنا کذلک فإنّه یکون عامّاً وشاملاً للزنا اللاحق والسابق على السواء. وما ظُنّ من أنّ الحلیة لا تکون فعلیة فی مورد الزنا السابق وإنّما تکون کذلک فی مورد الزنا اللاحق اشتباه؛ لأنّ الحلال فی مورد الزنا السابق هو إیجاد النکاح، وفی مورد الزنا اللاحق هو إدامة النکاح. ففی کلا الموردین الحلّیة فعلیة ولیست تقدیریة، وإذا کان الحرام لا یحرم الحلال فإنه لا یحرمه فی کلا الموردین.
وهذه المسألة فی الواقع شبیهة بمسألة ((لا تنقض الیقین بالشک))(1)، فالشک الذی هو شیء لا قیمة له لا یمکن أن ینقض الیقین، وکذلک الحرام الذی هو شیء لا قیمة له لا یمکن أن یحرم الحلال.
وإذا خصصنا التعلیل بمورد الزنا اللاحق فإنه یکون تعلیلاً تعبّدیاً حینئذٍ، مع أننا قلنا بأنّ التعلیل عادة یکون بأمر عقلی، وأنّه یجب أن یکون عامّاً، فیشمل الزنا السابق والزنا اللاحق على السواء.
المؤید الثانی: روایة زرارة عن الباقر ـ علیه السلام ـ حیث قال: قال أبو جعفر ـ علیه السلام ـ: ((إن زنى رجل بامرأة أبیه أو بجاریة أبیه فإنّ ذلک لا یحرّمها على زوجها ولا یحرم الجاریة على سیّدها)) وهی إلى هنا تتحدث عن الزنا السابق، ((إنّما یحرم ذلک منه إذا أتى الجاریة وهی له حلال)) أی لم تکن مقاربته لها محرمة بأن کانت زوجته أو مملوکته، ((فلا تحلّ تلک الجاریة لابنه ولا لأبیه))، الحدیث(2).
فالروایة صریحة فی أنّ المُحرِّم هو الوطء الحلال، فتکون خیر شاهد على الحمل على الکراهة الذی ذکرناه، وإنّما لم نجعلها دلیلاً لضعف سندها.
المؤیّد الثالث: ما رواه أبو بصیر قال: سألته عن الرجل یفجر بالمرأة، أتحل لابنه؟ أو یفجر بها الابن، أتحل لأبیه؟ قال: ((لا، إن کان الأب أو الابن مسّها واحد منهما فلا تحل))(3).
فالروایة تقول بأنّ ملموسة الأب أو الابن حرام على الآخر، وقد أفتى بعضهم بمضمونها فی خصوص الأَمَة، ولا ینسجم هذا الحکم بالحرمة مع الروایات التی تنفی العیب عمّا دون الدخول، وعلیه لابدّ من حمل هذه الحرمة على الکراهة، وعندما ینفتح باب الحمل على الکراهة فی هذا البحث فإننا نحمل روایات الحرمة على الکراهة أیضاً.
إن قلتَ: إنّ (المسّ) فی الروایة کنایة عن الدخول.
قلنا: إذا کان بمعنى الدخول فإنّها لا تفیدنا شیئاً، وإذا کان بمعنى (اللمس) فإنّها شاهد جید على الحمل على الکراهة.
المؤیّد الرابع: أنّ المشهور بالنسبة لروایات العمّة والخالة والتی هی کلغز یقولون بأنّه مع الزنا بالعمّة أو الخالة تحرم بناتهما على الزانی، فإذا کان الزنا السابق على العقد محرّماً فی کلّ الموارد فما هو وجه تخصیص العمّة والخالة بالذکر فی بعض الروایات؟ إنّ تخصیصهما بالذکر کذلک یدلّ على عدم التحریم فی البقیّة.
المؤیّد الخامس: أنّ الظاهر من قوله تعالى: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِکُمُ)(4) تخصیص الحرمة باللاتی یکون وطؤهن حلالاً للأبناء، وهکذا بالنسبة لـ(نِسَائِکُم) من قوله تعالى: (وَرَبَائِبُکُمُ اللاتِی فِی حُجُورِکُم مِن نِسَائِکُمُ)، حیث إنّها لا تطلق على المزنی بها.
إذن فاستفادة التحریم بالزنا من الروایات معارضة للقرآن، فهل یمکن أن یقول الأئمة ـ علیهم السلام ـ شیئاً مخالفاً للقرآن؟!
إذن یعلم من کلّ ذلک أنّ الشارع المقدس یرى بأنّ الزنا فی درجة أضعف من الوطء المباح، ولذا حکم فیه بالکراهة، بمعنى أنّه یکره الزواج من أُمّ المزنی بها مثلاً.
والنتیجة هی أنّ فتوانا فی هذه المسألة هی عدم ثبوت التحریم بالزنا، سابقاً کان أو لاحقاً.
نعم، الزواج من المزنی بأُمّها أو بابنتها مثلاً مکروه والأفضل ترکه، وإن کان قد حصل نقول بأنّه لیس بحرام.
وصلّى الله على سیدنا محمد وآله الطاهرین.
_____________________
(1) الوسائل 1: 245، أبواب نواقض الوضوء، ب1، ح1.
(2) الوسائل 20: 419، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ب4، ح1.
(3) الوسائل 20: 430 ـ 431، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ب9، ح1.
(4) النساء: 23.
الهوامش: