والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرین.
بعد أن انتهینا من بیان أقوال وأدلّة الخاصة فی هذه المسألة نتعرّض إلى روایات العامّة فیها لنلاحظ أنّها إن نظر إلیها بعین الإنصاف فإنّها تدل بالنهایة على نفس مذهب الشیعة.
وأخبارهم فیها على ثلاث طوائف:
الطائفة الأُولى: الروایات التی ترعى حرمة مطلق الجمع، أی حرمة إدخال العمّة والخالة على بنت الأخ أو الأُخت، أو العکس، منها:
1 ـ … أنّه سمع أبا هریرة یقول: نهى رسول الله ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ أن یُجمع بین المرأة وعمّتها وبین المرأة وخالتها(1).
2 ـ … عن أبی هریرة، عن النبی ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ قال: ((لا یجمع بین المرأة وعمّتها وبینها وبین خالتها))(2).
3 ـ … حدّثنی أبو سلمة أنّه سمع أبا هریرة یقول: قال رسول الله ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ: ((لا تنکح المرأة وخالتها ولا المرأة وعمّتها))(3).
الطائفة الثانیة: الروایات التی تصرّح بحرمة الجمع من الطرفین، منها:
… عن أبی هریرة قال: قال رسول الله ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ: ((لا تنکح المرأة على عمّتها ولا على خالتها، ولا العمّة على ابنة أخیها ولا الخالة على ابنة أُختها، لا الصغرى على الکبرى ولا الکبرى على الصغرى))(4).
الطائفة الثالثة: الروایات التی تصرّح بحرمة إدخال المرأة على عمّتها أو خالتها فقط دون العکس، مثل:
1 ـ … عن أبی هریرة قال: قال رسول الله ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ: ((لا تنکح المرأة على عمّتها ولا على خالتها))(5).
2 ـ … عن جابر بن عبد الله الأنصاری قال: قال رسول الله ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ: ((لا تنکح المرأة على عمّتها ولا على خالتها))(6).
والملاحظ أنّ أکثر هذه الروایات تنتهی إلى أبی هریرة، وهی جمیعها موجودة فی (السنن الکبرى) للبیهقی(7)، والذی لعلّه أفضل کتاب جمع الأحادیث الفقهیة عند أهل السنّة.
سؤال: هل أنّ أبا هریرة قد سمع هذه العبائر عدّة مرّات عن النبی ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ وفی عدّة وقائع، بحیث فی إحداها قال ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ: ((لا تنکح)) وفی أُخرى: نهى، وفی ثالثة: ((لا یجمع))، أو أنّه ـ صلّى الله علیه وآله وسلم ـ أطلق فی مکان ثم صرّح بحرمة الطرفین فی مکان آخر؟ أو أنّها روایة واحدة لا غیر سمعها أبو هریرة عن النبی صلّى الله علیه وآله وسلم؟
والجواب: الظاهر أنّ الاحتمال الثانی هو الأقوى؛ لأننا نعلم بأن أبا هریرة کان حریصاً على تکثیر الروایات لیوحی بأنّه لوحده مصدر علم النبی صلّى الله علیه وآله وسلم، وقد کان بسبب ذلک ینقل الروایة تارة بعبارة وأُخرى بعبارة ثانیة، وأحیاناً کان یشتبه فی نقله للألفاظ.
وعلى هذا إذا فرضنا أنّ أبا هریرة کان ثقة فما هو الحلّ؟
لابدّ من الأخذ بالقدر المتیقن من هذه الطوائف الثلاث، وهو أقل مقدار من الحرمة دلّت علیه الروایات، وهو ما دلّت علیه الطائفة الثالثة، أی نفس ما علیه مذهب الشیعة. وروایة جابر خیر مؤیّد له.
ثمّ إذا قلنا بأنّ تناسب الحکم والموضوع یقتضی ـ کما صرّح به فی روایات الخاصة ـ کون الوجه فی حرمة إدخال المرأة على عمّتها أو خالتها هو احترام العمّة أو الخالة، فحینئذٍ یمکن القول بأنّه إذا أذنت العمّة أو الخالة فی ذلک فإنّه لا یکون فیه عدم احترامٍ لهما.
والنتیجة هی أنّه یمکن بهذا التحلیل الخروج من روایات العامّة بنفس ما علیه مذهب الشیعة.
الفرع الأوّل: ذکر الإمام ـ قدّس سرّه ـ بأنّه لا یفرّق فی هذه المسألة بین کون النکاحین دائمین أو منقطعین أو مختلفین، ففی کلّ ذلک الحکم هو حرمة ورود المرأة على عمتها أو خالتها إلاّ بإذنهما. ودلیل ذلک هو إطلاق الروایات وعدم ورود أیّ إشارة فی شیء منها إلى مسألة الدوام والانقطاع.
الفرع الثانی: لا یفرّق فی الحکم بین أن تعلم العمّة والخالة بوقوع العقد حاله أو بعده، ولا بین اطلاعهما على ذلک وعدمه أبداً. کل ذلک بمقتضى إطلاق الروایات.
إن قلت: إنّ الموجب لهذا الحکم هو احترام العمّة والخالة، فإذا لم تعلما بهذا الزواج لا تحصل لهما أیّة أذیة، وعلیه فینبغی الحکم بالجواز فی هذه الصورة.
قلنا: أوّلاً: إنّ احترام العمّة والخالة حکمة للحکم هنا لا علّة، والحکمة غالبیة لا دائمیة.
وثانیاً: المذکور فی الروایات إنّما هو اصطلاح الاحترام لا الإیذاء، وهو عنوان اجتماعی وفی أعین عموم الناس، وحینئذٍ یمکن صدقه حتى فی صورة عدم علم العمّة والخالة.
وصلّى الله على سیدنا محمد وآله الطاهرین.
______________________
(1) مسند أحمد بن حنبل 3: 115/ 8950. السنن الکبرى 7: 165.
(2) السنن الکبرى 7: 165.
(3) مسند أحمد بن حنبل 3: 154/ 9184. السنن الکبرى 7: 165.
(4) السنن الکبرى 7: 166.
(5) مسند أحمد بن حنبل 3: 170/ 9303.
(6) مسند أحمد بن حنبل 4: 294/ 14222. السنن الکبرى 7: 166.
(7) السنن الکبرى 7: 166.
الهوامش: