والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرین.
حرمة الجمع بین الأختین
تتمة البحث فی الفرع الخامس
دلیل القول بالتخییر
استدل القائلون بالتخییر بروایة محمد بن یعقوب، عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن جمیل بن درّاج، عن بعض أصحابه، عن أحدهما ـ علیهما السلام ـ أنّه قال فی رجل تزوّج أختین فی عقدة واحدة قال: ((هو بالخیار یمسک أیتهما شاء ویخلّی سبیل الأخرى))(1).
والروایة مرسلة ولها سندٌ آخر فیه (علیّ بن السندی) وهو مجهول الحال.
وقد ناقش القائلون بالبطلان فی هذه الروایة من ناحیة السند بما قلناه، ومن ناحیة الدلالة بأنّه یحتمل أن یکون المقصود بـ: ((یمسک أیتهما شاء)) إمساکها بعقد جدید.
وهذا خلاف الظاهر.
وقد أیّد فی (الجواهر) الاحتمال المذکور فی دلالة هذه الروایة بما ورد فی روایة أبی بکر الحضرمی، قال: قلت لأبی جعفر ـ علیه السلام ـ: رجل نکح امرأة ثم أتى أرضاً فنکح أختها ولا یعلم، قال: ((یمسک أیتهما شاء ویخلّی سبیل الأخرى)) الحدیث(2).
وقال ـ قدّس سرّه ـ: (المراد منه قطعاً التخییر بین إمساک الأولى بالعقد الأوّلی وبین طلاقها وإمساک الثانیة بعقد مستأنف)(3).
وهذا هو معنى التخییر فی روایة الحضرمی.
ولکن الاستناد إلیها لتأیید الاحتمال المذکور فی دلالة روایة جمیل مشکل؛ لأنّها ضعیفة سنداً، حیث إنّ أبا بکر الحضرمی إمّا هو عبد الله بن محمد وإمّا محمد بن شریح، والأول هو الذی یروی عن الباقر ـ علیه السلام ـ ولکنّه لم یُذکر بتوثیق، والثانی ثقة(4)، ولکنّه من أصحاب الصادق علیه السلام؛ ولذا عبّر فی (الجواهر) عن هذه الروایة بخبر الحضرمی.
وأیضاً لا یمکن المقارنة بین مضمونها وما نحن فیه؛ لأنّ ما نحن فیه فرض تقارن العقدین، بینما فرض هذه الروایة وقوع العقدین على الأختین فی زمانین؛ ولذا فإنّ أوّلهما صحیح قطعاً والثانی باطل کذلک؛ ولذا کان التخییر بالشکل الذی ذکره صاحب (الجواهر) قدّس سرّه.
وبهذا یرتفع الإشکال عن دلالة روایة جمیل.
وأمّا الإشکال السندی فیها فیرتفع أیضاً بأنّ لها سنداً آخر صحیحاً بحسب روایة الفقیه(5)، حیث إنّ طریق الصدوق ـ رحمه الله ـ إلى محمد بن أبی عمیر معتبر، وجمیل یرویها مباشرة عن الصادق علیه السلام.
وعلى هذا فنحن نعمل بها ونفتی بمضمونها.
إن قلت: ماذا تفعل بالاستدلال العقلی السابق؟
قلنا: لا تنافی فی البین؛ لأنّه لا تنحصر المسألة بالشقوق الأربعة المذکورة فی ذلک الاستدلال العقلی، بل هناک شق خامس، وهو أن یکون العقد مُراعًى وینتظر فیه اختیار الزوج، أی أنّ له شرطاً ـ هو اختیار الزوج ـ لابدّ من تحقّقه.
ولیست نتیجة ذلک الاستدلال الاستحالة العقلیة کما قد یتوهّم، وإلاّ لما وجدنا للتخییر فی أمثال المقام أی مصداق، بینما نجد أنّ الشارع قد حکم بالتخییر فی مورد الرجل الذی یُسلم عن أزید من أربع زوجات، فإنّه یختار أربعاً منهنّ ویدع الباقیات.
إن قلت: الحکم بالتخییر هنا مخالف للاحتیاط؛ ولذا فالأفضل إعادة العقد على من یختارها. ولعلّه لأجل ذلک اختار کثیر من الأعاظم البطلان.
قلنا: إنّ القول بالبطلان مخالف للاحتیاط أیضاً؛ لأنّه بناءً علیه سوف یکون بإمکان هاتین الأختین الزواج، مع أنّه یحتمل أن تکون إحداهما زوجة واقعاً تبعاً لاختیار الزوج. ولذا مقتضى الاحتیاط التامّ هو ترک الاختیار، والعقد من جدید.
بقی هنا أمران:
الأمر الأول: إذا لم یختر الزوج أیّةً منهما فما هو حکم الأختین حینئذٍ؟ وإلى أیّ حدّ یجب علیهما الانتظار، فهل یستمر هذا الحکم أو ینتهی عندما تتضرر المعقود علیهما؟
لم یتعرّض أحد إلى الحدّ الذی یمتدّ إلیه التخییر، والظاهر أنّ حدّه تضرر المعقود علیهما.
الأمر الثانی: هناک احتمال ثالث فی المسألة غیر التخییر والبطلان، وهو صحة عقد من قدّم ذکرها فی صیغة العقد، کفاطمة مثلاً فیما إذا قال: زوّجتک فاطمة وخدیجة. وهذا ما نصّت علیه روایة دعائم الإسلام التی رواها فی (المستدرک)، عن جعفر بن محمد ـ علیه السلام ـ أنّه سئل عن رجل تزوّج أختین أو خمس نسوة فی عقدة واحدة؟ قال: ((یثبت نکاح الأخت التی بدأ باسمها عند العقد والأربع من النسوة اللاتی بدأ باسمائهن ویبطل نکاح ما سواهنّ...))(6).
أقول: دلالة هذه الروایة جیدة، ولکن المشکلة فی سندها، حیث إنّها مرسلة (دعائم الإسلام)، مضافاً إلى إعراض الأصحاب عنها وعدم إفتاء أحد بمضمونها.
وصلّى الله على سیدنا محمد وآله الطاهرین.
_______________________
(1) الوسائل 20: 478، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ب25، ح2.
(2) الوسائل 20: 479، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ب26، ح2.
(3) جواهر الکلام 29: 384.
(4) نقد الرجال 4: 229 ـ 4770/ 414.
(5) الوسائل 20: 478، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ب25، ح1.
(6) مستدرک الوسائل 14: 405، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ب25، ح1.
الهوامش: