بسم الله الرحمن الرحیم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرین.
أدلة القول بالحرمة فی صورة الإصرار:
الدلیل الثانی: روایتان:
الأولى: محمد بن الحسن [الطوسی] بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن الفضل بن یونس، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفرـ علیهما السلام ـ عن رجل تزوّج امرأة فلم یدخل بها فزنت؟ فقال: ((یفرق بینهما وتحد الحد ولا صداق لها))(1).
وظاهرها أنّها تبین منه بلا حاجة إلى طلاق.
الثانیة: وبإسناده عن إسماعیل بن أبی زیاد [وهو السکونی، فیکون السند مشکلاً لأجله]، عن جعفر بن محمد، عن أبیه ـ علیهما السلام ـ قال: ((قال علی ـ علیه السلام ـ فی المرأة إذا زنت قبل أن یدخل بها زوجها ، قال: یفرّق بینهما ولا صداق لها؛ لأنّ الحدث کان من قبلها))(2).
إذن مورد هاتین الروایتین هو زنا الزوجة، والحکم فیهما هو الحرمة، فتکونان دلیلاً على مذهب القائلین بالحرمة.
ولکن الاستدلال بهما مشکل من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: من ناحیة السند, حیث قد أعرض المشهور عن العمل بهما.
الجهة الثانیة: أنّهما أخص من المدّعى من جهة وأعمّ منه من جهة، أخصّ لأنّ موردهما هو الزنا قبل الدخول، والحال أنّه لا فرق فی الحکم بین الدخول وعدمه. وأعمّ لأنّهما تشملان المصرّة وغیر المصرّة، بینما مدّعى المستدل خاصّ بالمصرّة, ومثل هذا الدلیل لا یکفی لإثبات المقصود.
الجهة الثالثة: أنهما تنصّان على أنّه لا صداق لمثل هذه المرأة، والحال أنّه لم یفتِ أحد بذلک.
وهنا ینفتح بحث فی أنّه هل تُحرم المرأة من مهرها فیما لو سبّبت بطلان النکاح، وما هو توجیه ذلک؟
فنقول: العیوب على نحوین: عیوب منصوص على ثبوت حق الفسخ معها، مثل الجنون. وعیوب غیر منصوصة ولکنّها ممّا یراها العرف عیباً، وسواء صرّح بها حین العقد أم لم یصرّح بها یثبت حق الفسخ للطرف المقابل عند الاطلاع علیها, ومثال ذلک: أنّ العرف یرى لزوم کون البنت باکرة، فإذا اتضح بعد الزواج عدم کونها کذلک یثبت للزوج حقّ الفسخ، إمّا للتدلیس وإمّا لخیار تخلّف الشرط العام.
ومضمون هاتین الروایتین من هذا القبیل، حیث یعلم الزوج بزنا زوجته بعد الزواج.
ویؤید هذا الفهم أنّ صاحب الوسائل (قده) قد ذکر هاتین الروایتین فی أبواب العیوب والتدلیس، الأمر الذی یدل على فهمه منهما ما ذکرنا.
ویشهد له أیضاً مضمون روایة عبد الرحمن بن أبی عبد الله عن الصادق علیه السلام, قال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن رجل تزوّج امرأة فعلم بعدما تزوجها أنّها کانت قد زنت؟ قال: ((إن شاء زوجها أخذ الصداق ممّن زوّجها)), وظاهرها ظهور زناها بعد الدخول بها أیضاً، ومع ذلک له الرجوع على من زوّجه إیاها, ((ولها الصداق بما استحل من فرجها)) لفرض دخوله بها وعزمه على مفارقتها، فتأخذ مهرها ویرجع به الزوج على من دلّسها علیه، ((وان شاء ترکها)). الحدیث(3).
فحرمان المرأة من المهر فی الروایتین السابقتین إنّما هو لأجل ظهور زناها قبل الدخول بها، ولا مهر للمرأة إذا فُسخ عقدها قبل الدخول.
إذن فالروایتان خاصتان بباب العیوب وخارجتان عن محل البحث: لأنّ محل البحث هو زنا المرأة بعد الزواج. وهذه جهة رابعة فی مناقشة هاتین الروایتین.
الدلیل الثالث: أنّ ذلک ما یقتضیه الاحتراز عن اختلاط المیاه. وقد أشیر له فی کلام صاحب (کشف اللثام) حیث قال: (وثانیاً بالاحتراز عن اختلاط مائه بماء الزنا؛ ولذا ورد فی الأخبار أنّ من أراد التزوج بمن فجر بها استبرأ رحمها من ماء الفجور، ولکنّه لا یفید الدعوى)(4).
وفیه: أوّلاً: أنّه استحسان ظنّی؛ لأنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، فإذا لم یمکن إلحاق الولد بالفراش یلحق بالفجور، وإذا کان یمکن إلحاقه بالفراش فهو ملحق به، فلا یحصل اشتباه حتى نتحرز عنه.
وثانیاً: أنّ هذا الدلیل لا یفرق فیه بین صورة الإصرار وعدمه، فهو أعمّ من المدعى.
وثالثاً: أنّه یمکن التحرّز عن اختلاط المیاه بترک مواقعتها مدة حتى یطهر رحمها من ماء الفجور، ولا یلزم مفارقتها بالکلیة حتى یحصل التحرز.
إن قلت: إن مشکلة اختلاط المیاه محلولة فی زماننا، حیث یمکن إجراء فحوصات مختبریة توضح أن هذا الولد من أی نطفة خُلق، فهل مع ذلک یبقى هناک حاجة للعدة والتحرز من اختلاط المیاه؟
قلنا: لابد من ملاحظة نکتتین:
الأولى: أنّ هذه الفحوصات المختبریة لیست دقیقة وقطعیة النتائج کما یتصور، بل هی معرض للخطأ إمّا من البشر أو من الآلات التی یستفاد منها فی هذا المجال.
الثانیة: أنّ فلسفة العدة لا تنحصر فی الاحتراز من اختلاط المیاه، ولذا یجب على المرأة الاعتداد حتى لو طلّقها الزوج بعد سنتین مثلاً من الابتعاد عنها. وهناک فلسفة أخرى لهذا الحکم هی الحفاظ على حریم الزوجیة، حتى لا تکون المرأة کل یوم مع رجل مختلف، والعدة هی التی تحقق ذلک.
وینبغی التنبیه هنا على أنّه لا شک فی کراهیة الإبقاء على زوجیة المرأة التی تخون زوجها حتى لو تابت، وکلامنا السابق إنّما هو فی الحرمة وعدمها.
وصلى الله على سیدنا محمد وآله الطاهرین.
___________________
(1) الوسائل 21: 218، أبواب العیوب والتدلیس، الباب6، ح2.
(2) الوسائل 21: 218، أبواب العیوب والتدلیس، الباب 6، ح3.
(3) الوسائل 21: 219، أبواب العیوب والتدلیس، الباب 6، ح4.
(4) کشف اللثام 7: 186.
الهوامش: