والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرین.
الأمر الثالث: فی أنه هل وطء ذات البعل شبهة مشمول لمعاقد الاجماعات والروایات فتحرم الموطوءة أبداً على الواطئ أو لا؟
لم یتعرض الإمام ـ قدّس سرّه ـ فی (تحریر الوسیلة) لهذا الفرع، وتعرّض له فی (العروة) فقوّى فیه عدم الحرمة الأبدیة؛ لأنّه لیس زنا، والروایات ومعاقد الاجماعات مختصة بعنوان: (من زنى).
وأشکل فیه فی (الجواهر) واحتمل ثبوت الحرمة الأبدیة فقال: (ففی الحرمة أبداً إشکال، وإن کان ظاهر العبارات عدم شموله، لکن یمکن استفادته من حکم العقد على ذات البعل، بناءً على الأولویة المزبورة، وأنَّ حکمها الحرمة أبداً مع علمها دونه بمجرّد العقد)(1) فمع الوطء تحرم بطریق أولى.
وفیه: أنّ هذه الأولویة غیر قطعیة، ولذا لا یمکننا التعمیم على أساسها.
الأمر الرابع: لو کانت المرأة هی الزانیة دون الرجل لعلمها بأنّها ذات بعل، فهل تثبت الحرمة الأبدیة هنا أیضاً أو لا؟
مورد الروایات هو الزنا بذات البعل، وکذا معاقد الاجماعات، فکلها ناظرة إلى الرجل دون المرأة؛ لذا لا یمکننا قیاس المرأة على الرجل والحکم بالحرمة هنا.
نعم، الدلیل الوحید الذی یمکن أن یشمل هذه الصورة هو الأولویة؛ لأنّه فی نکاح ذات البعل تثبت الحرمة حتّى لو کان أحدهما فقط عالماً، فتثبت هنا بطریق أولى. ولکنّنا ناقشنا هذه الأولویة سابقاً وأشکلنا فیها.
یقول الإمام الخمینی قدّس سرّه: (مسألة 23: لو زنى بامرأة فی العدّة الرجعیة حرمت علیه أبداً کذات البعل دون البائنة ومن فی عدّة الوفاة، ولو علم بأنّها کانت فی العدّة ولم یعلم بأنّها کانت رجعیة أو بائنة فلا حرمة. نعم، لو علم بکونها فی عدّة رجعیة وشکّ فی انقضائها فالظاهر الحرمة).
الأقوال:
هذه المسألة من ناحیة الأقوال کسابقتها، وکثیرون ذکراهما معاً، ولذا فهی مجمع علیها أیضاً.
قال فی (الریاض): (وکذا) تحرم (لو زنى بها فی العدّة الرجعیة بلا خلاف یعرف، کما صرّح به جماعة، بل علیه الإجماع منّا فی الانتصار) للمرتضى (والغنیة) لابن زهرة (وعن الحلّی) ابن إدریس (وفخر المحققین). ثمّ استدل ـ قدّس سرّه ـ علیه بروایة (فقه الرضا) ودلیل الأولویة وقال بأنَّ ما تقدّم من أدلة یجری هنا أیضاً، ثمّ نقل تردّد المحقّق ـ قدّس سرّه ـ فیه(2).
وعن السیّد المرتضى ـ قدّس سرّه ـ أنّه قال: (وممّا ظنّ انفراد الإمامیة به)، بینما فی الزنا بذات البعل قال: ممّا انفردت الإمامیة به، ولیس واضحاً وجه هذا التفاوت فی التعبیر، (القول بأنَّ من زنى بامرأة وهی فی عدّة من بعلٍ له فیها علیها رجعة حرمت علیه بذلک ولم تحلّ له أبداً، والحجة لأصحابنا فی هذه المسألة الحجة التی قبلها والکلام فی المسألتین واحد)(3).
أدلّة الحرمة فی العدّة الرجعیة
1 ـ مقتضى القاعدة: وهو دلیل جیدّ قلّما تمسّکوا به، وهو أنَّ المرأة فی العدّة الرجعیة بحکم الزوجة، فما یثبت للزوجة من أحکام یثبت لها، فإذا تمّت الحرمة الأبدیة فی المسألة السابقة تتمّ هنا أیضاً.
2 ـ الإجماع، والذی إن تمّ فی المسألة السابقة یتمّ هنا أیضاً.
3 ـ الروایات المرسلة المستدل بها فی المسألة السابقة.
منها: مرسلة (فقه الرضا)، ولیس فیها تعبیر (العدّة الرجعیة)، فلا یمکن الاستناد إلیها هنا. وهکذا روایات السیّد المرتضى قدّس سرّه.
ومنها: مرسلة صاحب (الریاض) المشتملة على عبارة (العدّة الرجعیة)، فیمکن الاستناد إلیها هنا.
4 ـ قیاس الأولویة، بتقریب أنّه إذا کان النکاح فی العدّة الرجعیة موجباً للحرمة الأبدیة فإنَّ الزنا فی العدّة الرجعیة یوجبها بطریق أولى.
وجواب هذه الأدلة هو نفس ما أجیب به عنها فی المسألة السابقة.
أدلّة عدم الحرمة فی العدّة البائنة
ویدل على عدم الحرمة فیها أُمور:
الأوّل: أنّها خارجة عن معقد الإجماع المدّعى على الحرمة.
الثانیة: أنَّ الروایات لا تشمل ذات العدّة البائنة.
إن قلت: بناءً على دلیل الأولویة ینبغی ألاّ یفرّق بین ذات العدّة الرجعیة وذات العدّة البائنة؛ لأنّه لا فرق بینهما فی النکاح، فنکاح ذات العدّة البائنة یوجب الحرمة الأبدیة حتّى لو لم یحصل دخول فیما إذا نکحها عالماً بکونها فی العدّة، وکذا تترتب الحرمة الأبدیة مع حصول الدخول فیما إذا کان جاهلاً بکونها فی العدّة، إذن لابدّ أن تثبت الحرمة فی صورة الزنا بها بطریق أولى.
وقد أشار إلى ذلک فی (الریاض) حیث قال: (وفیه نظر، لجریان بعض ما تقدّم هنا، کالأولویة الواضحة الدلالة فی ذات العدّة المزبورة، بناءً على ما یأتی من حصول التحریم بالعقد علیها فیها)(4).
وناقش فی دعوى الأولویة هنا صاحب (الجواهر) ـ قدّس سرّه ـ الذی قبلها فی المسألة السابقة فقال: (وفیه منع الأولویة المفیدة کما هو واضح)(5).
أقول: الأولویة فی هذه الموارد لیست قطعیة، وکما قلنا سابقاً فإنَّ الشارع المقدّس یعطی أهمیة لمسألة النکاح أکثر من مسألة الزنا فی هذه المباحث؛ لأنّ النکاح توأم مع التشریع ولیس الزنا کذلک.
وأمّا صاحب (الجواهر) ـ قدّس سرّه ـ فإنَّ کلامنا معه هنا هو أنّک منعت الأولویة المفیدة فی هذا الفرع، وهذا شیء واضح وتامّ، ولکن لا فرق بینه وبین المسألة السابقة حتّى قبلت الأولویة فیها ومنعتها هنا، فإذا کانت الأولویة قطعیة فهی کذلک فیهما، وإلاّ لا تکون کذلک فی شیء منهما.
فرع: لو حصل الزنا فی عدّة المتعة وعدّة وطء الشبهة فهل یترتب علیه الحرمة الأبدیة؟ لم یتعرض الإمام ـ قدّس سرّه ـ لهذا الفرع، وتعرّض له فی (العروة).
وحکمه هو أنَّ هاتین العدّتین لهما حکم العدّة البائنة؛ لأنّه لا یمکن الرجوع فیهما. ومع الشک فالأصل الحلیّة، والقدر المتیقن من الحرمة هو صورة العدّة الرجعیة.
بقی الکلام فی الفرعین اللذین ذکرهما الإمام قدّس سرّه:
الفرع الأوّل: لو عُلم بأنّ المرأة کانت فی العدّة حالة الزنا، ولم یُعلم بأنّها عدّة رجعیة أو بائنة، فهل تثبت الحرمة الأبدیة أو لا؟
هذه شبهة موضوعیة تحریمیة، والمرجع فیها إلى أصالة البراءة حتّى عند الإخباریین القائلین بالاحتیاط فی الشبهات الحکمیة، ولا یلزم فیها الفحص أیضاً. نعم، نحن نقول بالفحص فیما لو کان سهلاً.
الفرع الثانی: لو عُلم بأنَّ المرأة المزنی بها کانت ذات عدّة رجعیة، وشکّ فی انقضائها. وقد أفتى الإمام ـ قدّس سرّه ـ فیه بالحرمة؛ للاستصحاب، والذی هو استصحاب فی شبهة موضوعیة.
إن قلت: هذا الاستصحاب هنا أصلّ مثبت؛ لأنّنا به نثبت أنّ المرأة فی العدّة، ونعلم بوقوع بالزنا بالوجدان، فنستنتج أنَّ الزنا وقع فی العدّة، وهذا اللازم عقلی.
قلنا: هذه الواسطة خفیّة، وقد ذکرنا فی مباحث الأصول أنَّ الواسطة إذا کانت جلیّة کان الأصل مثبتاً، أمّا إذا کانت خفیة فلا یکون مثبتاً؛ لأنَّ روایات الاستصحاب من قبیل الواسطة الخفیة، مثلاً عند الشکّ فی الوضوء فثبت الوضوء بالاستصحاب، ونصلّی بناءً على ذلک، والحال أنَّ المعتبر هو تقیّد الأجزاء بالشرط، وهذا التقیّد لازم عقلی، حیث نقول: کان هناک وضوء، ووجدت أفعال الصلاة، فوقعت الأفعال فی حال التقید بالشرط (الطهارة)، وهذا التقیّد لازم عقلی، ولکن لا إشکال فیه لأنَّ الواسطة خفیَّة.
إذن روایات الاستصحاب دلیلّ على حجیّة الأصل فیما إذا کانت الواسطة خفیّة.
وصلّى الله على سیّدنا محمّد وآله الطاهرین.
_____________________
(1) الجواهر 29: 446.
(2) الریاض 10: 207.
(3) الوسائل 20: 436، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، الباب 11، ح 10.
(4) الریاض 10: 207.
(5) الجواهر 29: 447.
الهوامش: